يعتبر كل من ظهير التنظيم القضائي للمملكة
المغربية، وكذا قانون
المسطرة المدنية، من أبرز القوانين الغنية بالمبادئ الأساسية الكفيلة بتحقيق
العدالة بالدرجة الأولى، وقد أخد المشرع المغربي بعين الاعتبار البعد الأخلاقي في
وضع هذه القواعد، لما لها من أهمية كبرى في صيانة حقوق المتقاضين أمام مرفق القضاء،
وهذا ما سنتطرق إليه في هذا المطلب، حيث سنحاول استنطاق هذه القوانين المسطرية و إبراز
البعد الأخلاقي فيها.
الفقرة الأولى :
النزعة الأخلاقية في مبادئ التنظيم القضائي
يجسد التنظيم القضائي دون أدنى شك، الركيزة
الأساسية التي تقوم عليها العدالة و بنيتها التحتية، ونظرا للدور الحمائي للحقوق
الذي يلعبه هذا القانون , عمد المشرع المغربي إلى تأسيسه على ركائز و دعامات
أخلاقية، تتجلى في جملة من المبادئ التي تبتغي في مجملها تحصين الحقوق و الحريات،
ومن أهم هذه المبادئ نجد إقرار المشرع نظام المساعدة القضائية ومجانية القضاء
لفائدة فئآت من المجتمع, تستحق مد يد العون إليها بسبب عوزها وضعفها المادي، مما
قد يسبب لها في ضياع مصالحه (أولا) إضافة إلى ضمان حق المتقاضي في
محاكمة عادلة (ثانيا) .
أولا: الجانب الأخلاقي
في نظام المساعدة القضائية ومجانية
التقاضي
إن
توفير العدالة للمواطن، يستلزم من الدولة تمكين المتقاضي من اللجوء إلى القضاء،
دون أن تشكل المصاريف عائقا يمنعه من المطالبة بحقه . [1]
و لتحقيق هذه الغاية, اعتمد المشرع المغربي مبدأين أساسيين
لتعزيز الجانب المادي للمتقاضي, الذي قد يوجد في وضع ضعف يصعب معه عليه الدفاع عن
حقوقه المشروعة [2]، وفي ذلك
طبعا هامش واسع من الاعتبارات الأخلاقية، التي تستلزم تخويله (المتقاضي) الحق في
الولوج إلى مرفق العدالة دون تحمل مصاريف الدعوى.
أ -إقرار مجانية
التقاضي
لقد
نص الدستور الجديد للمملكة في فصله 121 على أنه : " يكون التقاضي مجانيا
" ويقصد بهذا المبدأ أن الدولة هي التي تتحمل أعباء استغلال المرفق القضائي و
الاستفادة من خدماته، لكن هذا المبدأ لا يكمن أخده على إطلاقه، لأن المقصود هو أن
المتقاضي لا يكلف بدفع نفقات إلى القاضي, الذي من واجبه النظر في طلبات
الخصوم وإصدار الأحكام فيها دون أخد مقابل منهم؛ لأنه يستخلص راتبه من الدولة،
ويعتبر مرتكبا لجريمة إنكار العدالة إذا رفض إصدار حكم في القضية المعروضة عليه،
وكل مقابل يأخذه يعتبر بموجبه مرتكبا لجريمة الرشوة، ويعرض نفسه للعقوبات المنصوص
عليها، و الهدف الأساسي من هذا الأمر؛ هو منع التحيز و الثأثير على القاضي.[3]
وعليه فان المجانية في هذا السياق لا ترمي
إلى جباية موارد لتمويل القضاء وتجهيز مرافقه, وإنما تبتغي بالأساس الحد من
الدعاوى الكيدية و إنصاف صاحب الحق؛ من خلال إلزام الطرف الذي خسر الدعوى بتحمل
مصاريفها و التصدي لظاهرة التحيز. [4]
وبالتالي فكل شخص
يلج مرفق القضاء للاستفادة من خدماته، يلزم بأداء "الرسم القضائي"
مسبقا- ما عدا في بعض الحالات الاستثنائية-
لدى كتابة الضبط بالمحكمة المعنية، أما المصاريف القضائية التي يتحملها
مبدئيا الطرف الذي خسر الدعوى، فتشمل أيضا أجور الخبراء و التراجمة عند الاقتضاء [5].
بناءا على ما سبق ذكره, يتضح بأن المشرع؛ قد
حاول التوفيق بين الاعتراف بالحقوق
المساعدة للمتقاضي و بين استغلالها بسوء نية، فإذا كان قد أخد بعين
الاعتبار الظروف المادية التي ترهق كاهل المتقاضي، فقد ألزمه بضرورة أداء جملة من
المصاريف القضائية، التي تبتغي التصدي لظاهرة الدعاوى الكاذبة، و الحيلولة دون إغراق
المحاكم بالقضايا الثانوية، ولعل الوسيلة التي راهن عليها المشرع في سبيل تحقيق
هذه الغاية، هي "نظام المساعدة القضائية "[6] فإلى أي حد قام هذا الأخير بالدور الأخلاقي
المنوط به؟
ب - نظام المساعدة
القضائية
إن المساعدة القضائية؛ نظام جاء به
المرسوم الملكي بمثابة قانون رقم 65-514 الصادر بتاريخ فاتح نونبر 1966 [7]، يهدف
إلى إعفاء المتقاضي من أداء المصاريف القضائية بصورة مؤقتة أو نهائية، فيما لو كان غير قادر على الدفاع عن حقوقه أمام
القضاء نظرا لعجزه المادي .[8]
فهذا النظام قد
أسسه المشرع على بعد أخلاقي واجتماعي، حيث التفت إلى مجموعة من الناس فآثر إعفائهم
من الصوائر القضائية إما بقوة القانون أو بشرط، عن طريق منحها المساعدة القضائية،
فالعامل وذوو حقوقه يستفيد منها سواء كان
مدعيا أو مدعى عليه، إلى غاية الاستئناف، كما أقرها المشرع لمصلحة كل شخص يحتاج إليها
شريطة تزكية الطلب بشهادة، يسلمها الباشا
أو القائد تثبت عسره و تتضمن وسائل عيشه [9].
ثانيا: مبدأ حق
المتقاضي في محاكمة عادلة
لقد نص دستور المملكة المغربية على أنه :
" لكل شخص الحق في محاكمة عادلة "[10] وذلك
بعد أن تطرق إلى مجموعة من المقتضيات
المرتبطة به، فلا يمكن الحديث عن المحاكمة العادلة دون ضمان الحق في
المساواة[11] و في
الدفاع أمام القضاء(أ) وكذا في جبر الأضرار التي قد تلحق المتقاضي نتيجة للأخطاء
القضائية(ُب) .
أ: الحق في
المساواة وفي الدفاع أمام القضاء
من أهم صور و تجليات النزعة الأخلاقية في
قانون التنظيم القضائي ؛ نجد إقرار المشرع بالمساواة و الحق في الدفاع باعتبارهما
أهم مجالات حقوق الإنسان و ضمانتين
أساسيتين لكفالة التمتع بباقي الحقوق .
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
على أنه: "كل الناس سواسية أمام القانون , ولهم الحق في التمتع بحماية
متكافئة ... "[12] كما نص أيضا على أنه:" لكل إنسان على قدم
المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة "[13].
أما الدستور فقد أشار إلى الحق في
المساواة في أكثر من موضع، فالفصل 154 يقضي بأنه :" يتم تنظيم المرافق
العمومية على أساس المساواة بين المواطنات و المواطنين في الولوج إليها" . و
يرمي هذا الحق إلى وجوب إخضاع الخصوم لنفس
القواعد و الإجراءات التي تحكم التقاضي بالنسبة للنوع الواحد من القضايا, دون أي
تمييز بينهم على أساس الجنس أو الدين أو اللون أو اللغة أو غيرها من الاعتبارات .[14]
أما بالنسبة للحق في الدفاع فيفيد في معناه
الضيق؛ تمكين المتقاضي الدفاع عن حقوقه بمؤازرة محام، أما في مدلوله الواسع فيفترض
هذا الحق إعطاء الخصم فرصة للإدلاء بملاحظاته، و تخويله الوقت الكافي لاعدادا
وسائل دفاعه، ومن صور هذا الحق؛ الحق في الإثبات و المرافعة و الاستعانة بمحام و
الحضور و ممارسة الطعون...[15]
ب- الحق في جبر الإضرار
نص دستور سنة 2011 على هذا الحق الذي جاء
فيه :" يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة ".[16]
وبهذا يكون المشرع قد تدخل لإسعاف
المتقاضي و إنصافه في حالة التي يلحقه فيها ضرر ناتج عن خطأ قضائي , وذلك بتخويله تعويض
يغطي أضراره و يصحح وضعيته، وفي هذه النقطة جانب أخلاقي يجسد بشكل كبير عطف المشرع
على المتقاضي .
وبذلك يكون المشرع قد حسم إشكالية كثيرا ما تجاذبتها
أقلام الباحثين, بين مؤيد و معارض لمسؤولية الدولة عن أخطاء القضاة، و اجتهاد
قضائي تارة يستبعد تكييف مسؤولية الدولة على أعمال السلطة القضائية، استنادا إلى
الفصل 79 من ق . ل . ع , وتارة أخرى يحمل الدولة هذه المسؤولية .
الفقرة الثانية:
النزعة الأخلاقية في قانون المسطرة المدنية
بالرغم من أن المشرع
المغربي لم ينص صراحة على معظم المبادئ المجسدة للبعد الأخلاقي الكامن وراء إرادته
في سن قواعد ق .م . م، إلا أن معالمها تبدو واضحة في العديد من الإجراءات المتعلقة
بالدعوى العمومية، و التي رتب على مخالفتها في غالب الأحيان جزاءا صارما؛ أما بعدم
القبول أو السقوط أو البطلان.
أولا : مبدأ التقاضي
بحسن نية و اشتراط المصلحة لممارسة الدعوى
أ- مبدأ التقاضي
بحسن نية
أن حق الولوج إلى القضاء كغيره من الحقوق
الشخصية الأخرى؛ يجب أن لا يتم استعماله بشكل تعسفي، و يعتبر تعسفيا كل استعمال لا
يهدف سوى إلى الإضرار بالخصم، ومن أجل التصدي لهذا الأمر؛ خول المشرع المغربي
للمدعى عليه الذي تضرر من دعوى تعسفية إمكانية رفع دعوى أخرى من أجل الحصول على تعويض،
و ويجد هذا التعويض سنده القانوني في الفصل 5 من قانون المسطرة المدنية، التي تلزم
أطراف الدعوى باستحضار حسن النية في التقاضي ,وتهم هذه النظرية أيضا كافة طرق
الطعن حيث خول المشرع إمكانية الحكم على الطاعن الذي يمارس طرق الطعن بشكل تعسفي
بأداء غرامة مالية[17] .
فالمشرع قيد ممارسة الدعوى بقواعد حسن النية
تحت طائلة المساءلة عن الضرر الذي قد يصيب المرء من جراء الخطأ الجسيم الذي قد
ينجم عن كل تصرف كيدي أو تدليسي في مجال التقاضي، و قد كرس المشرع المغربي هذه
القاعدة الخلقية في إطار الفصل 5 من قانون المسطرة المدنية بقوله:" يجب على
كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية "[18].
من خلال ما سبق بيانه يتضح أن المشرع
المغربي يعتد بنية المتقاضي، ويفترض فيها أن تكون حسنة، عن طريق ممارسة حقها في
التقاضي في إطار معقول دون أي تعسف، وفي ها المقتضى جانب أخلاقي مهم , يترتب عن الإخلال
به التعرض لجزاءات منصوص عليها، ومنها الغرامة المالية التي لا تتجاوز 300درهم, في
حالة رفض المحكمة (محكمة الدرجة الثانية)
تعرض الغير الخارج عن الخصومة[19] ...
ب- اشتراط المصلحة
لممارسة الدعوى
يتميز قانون المسطرة المدنية بكون قواعده
غنية بالاعتبارات الأخلاقية، التي يصعب الإحاطة بها في موضوع واحد، وفي هذه الفقرة
يستوقفنا شرط أساسي من شروط ممارسة الدعوى؛ وهو المصلحة أو المنفعة التي يبتغي
المتقاضي الحصول عليها، فكيف ساهم هذا الشرط في تخليق قواعد و ضوابط التقاضي؟
من العبث أن يتم
تضييع وقت القضاء في النظر في ما لا فائدة فيه, كما أنه من غير المعقول أيضا أن
يعمد المرء إلى رفع دعوى يتكبد مشقتها ومصاريفها دون أن يكون له غرض جدي يسعى إليه
أو منفعة يقصد الحصول عليها, وهي لازمة ليس فقط في الدعوى , بل كذلك في الدفوع و
الطعون وسائر الإجراءات، كما أن تحققها رهين بكونها قانونية، (أي ترتبط بحق معين
أو مركز يحميه القانون ) وشخصية؛ ( أي أن
يلجأ المتقاضي إلى القضاء للمطالبة بحق هو شخصيا صاحبه أو على الأقل ممثله
القانوني و قائمة وحالة؛ (أي موجودة أثناء المطالبة القضائية و استثناء تقبل
المصلحة المحتملة ).[20]
ثانيا : مخاصمة القضاة
وحياد القاضي
أ-
مخاصمة القاضي
لقد وضع المشرع على عاتق القاضي التزاما قانونيا في جوهره التزام أخلاقي و
أدبي للفصل في النزاعات، بحيث أن القاضي ملزم بالفصل وإصدار حكم في القضايا
المعروضة عليه[21] طبقا
الفصل 392[22] من ق م
م، وقد رتب على ذلك جزاء مخاصمة القاضي (الفصل 395 من ق م م )، فما المقصود
بالمخاصمة؟ وما هي حالاتها؟.
1- معنى مخاصمة القاضي
إن
مساءلة القاضي مدنيا عن الأخطاء التي يرتكبها و التي تستوجب مخاصمته في الحالات
التي حددها القانون، يعد دون شك نهج يؤكد أنه مهما سمت مكانة القاضي و علا شأنه في
الخلق و الاجتهاد فانه يظل بشرا قد يخطئ, وبالتالي يجب أن يخضع للمساءلة [23].
و بالرجوع إلى
مقتضيات ق م م, نجد المشرع قد أفرد الفصول من 391 إلى 401 لمخاصمة القضاة .
و
المقصود بالمخاصمة هو تقرير مسؤولية القاضي عن خطأ ارتكبه أثناء قيامه بمهامه، لكن هذه المسؤولية من نوع خاص، حيث أخد فيها
المشرع بعين الاعتبار من جهة الاحترام الواجب للقاضي و لعمله - وهذا ما يستنتج من
منطوق الفصل 396 من ق م م إلي ينص على :" لا يمكن أثناء هذه المسطرة استعمال
أقوال تتضمن اهانة للقضاة و إلا عوقب الطرف بغرامة لا يمكن أن تتجاوز ألف درهم ...
"- ومن جهة ثانية، حماية حقوق
المتقاضي من خلال عدم إعفاء الأول من كل مسؤولية تكريسا لمبادئ الإنصاف[24] .
2- حالات مخاصمة القضاة
نص المشرع المغربي
بموجب قانون المسطرة المدنية على أنه :" يمكن مختصمة القضاة في الأحوال
التالية :
1-إذا ادعى ارتكاب
تدليس أو غش أو غدر من طرف قاضي الحكم , أثناء تهيئ القضية أو الحكم فيها , أو من
طرف قاض من النيابة العامة أثناء قيامه بمهامه .
2- إذا قضى نص
تشريعي صراحة بجوازها .
3-إذا قضى نص
تشريعي صراحة بمسؤولية القضاة يستحق عنها تعويض.
4- عند وجود إنكار
العدالة."[25]
يتجلى الجانب الأخلاقي في إقرار
المشرع المغربي الحق في مخاصمة القضاة؛ في كونه حاول من خلال التحديد الحصري
لحالاته تحقيق التوازن بين مصلحة المتقاضيين وحقهم في الحصول على تعويض عن الأضرار
التي تكبدوها , وما بين ضرورة توفير
الظروف الملائمة للقضاة حتى يتسنى لهم أداء واجباتهم المهنية بعيدا عن الضغوطات
التي يمكن أن تترتب عن المحاسبة و المراقبة التي يتعرضون لها[26] .
[1] - نورة غزلان الشنيوي ،التوجهات
الأساسية للإصلاح الشامل و العميق لمنظومة العدالة ، التنظيم القضائي للمملكة-
الطبعة الاولى 2016 مطبعة الامنية (الرباط) , ص74 .
- ادريس العلوي العبدلاوي ، الوسيط في شرح المسطرة
المدنية- القانون القضائي الخاص وفق آخر التعديلات - الجزء الأول ، الطبعة الأولى 1998- مطبعة
النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، ص 275. [2]
[3]-
ادريس العلوي العبدلاوي ، م س ، ص 275
[4]-
نورة غزلان الشنيوي ، م . س ، ص 76.
[5]-
ادريس العلوي العبدلاوي ، م س ،ص 238.
[7]-
منشور في الجريدة الرسمية تحت عدد 2820 في
16 نونبر 1966 - الصفحة 2379.
[8]-
عبد الكريم الطالب ،التنظيم القضائي المغربي ، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء،
الطبعة الخامسة 2018- ص 38.
[9] -
نورة غزلان الشنيوي – م س- ص 82.
[10] -
دستور المملكة المغربية لسنة 2011 – الفصل 120.
[18]-
نورة غزلان الشنيوي، م س ،ص 38 و 39.
-
ينص الفصل 305 من ق م م على أنه :" يحكم على الطرف الذي لا يقبل تعرضه بغرامة
لا تتجاوز مائة درهم بالنسبة للمحاكم الابتدائية و ثلاثمائة درهم بالنسبة لمحاكم
الاستئناف و خمسمائة درهم بالنسبة لمحكمة النقض..."[19]
[21] ــ مأمون الكزبري و ادريس العلوي العبدلاوي
-شرح المسطرة المدنية في ضوء القانون المغربي – الجزء الاول - ص386
0 التعليقات:
إرسال تعليق