مقدمة
لطالما كانت العدالة المبتغى الأسمى للأفراد والمجتمعات على مر الزمن، نظرا لتضارب المصالح. لذلك كان القانون من أسمى النظم التي تنظم سلوك الأفراد وتحافظ على توازن المصالح وحمايتها.
ومن بين أهم القوانين التي تسهر على تثبيت الإنصاف والمساواة والتوازن وحماية المصالح الفردية والعامة، نجد القوانين الإجرائية التي تنظم الإجراءات القضائية وغير القضائية في نطاق القانون الخاص، وهو يشتمل على القواعد التي ترتب وتنظم إجراءات التقاضي وكيفية ممارستها، ومن ذلك القواعد المتعلقة بكيفية رفع الدعوى والبيانات الواجب توافرها في مقالها وكيفية إعلانها وآثار الدعوى وبطلانها والوقت الذي تعتبر فيه مرفوعة، وكيفية النظر فيها، وإجراءات الحضور، وجزاء التخلف عن الحضور، وإجراءات إثبات الدعوى، وجزاء عدم احترامها وجزاء عدم موالاة الإجراءات، وأثر مضي المدة فيها وميعاد إبداء الدفوع المختلفة، والأحوال التي يسقط فيها الحق في التمسك بها، وكيفية إصدار الحكم وبياناته وكيفية الطعن فيه، وإجراءاته وآثاره.
كما يشمل على القواعد التي تبين شروط تنفيذ الأحكام والقواعد القابلة للتنفيذ والتي تبين إجراءاته وآثاره، كل هذا سواء في إطار عمل السلطة القضائية الذي يكون إما قضائي أو ولائي.
ويعد موضوع التبليغ من أهم المساطر الإجرائية في القوانين المقارنة عموما وفي التشريع المغربي على الخصوص ويقوم موضوع التبليغ على مبادئ أساسية من بينها مبدأ التواجهية، ومبدأ حق الدفاع، لذلك فإن التشريعات السماوية اهتمت بهذا الموضوع لأهميته البالغة في تحقيق العدالة وكأساس للمحاسبة، لذلك فإن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه وجعله بين الخلائق محرما، فالتزم من جانبه بإرسال رسله إلى الأمم من أجل تبليغهم على أساس المحاسبة، فقال الله عز وجل: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا"، وفي ذلك أمانة من الله على تبليغ الأحكام التشريعية قبل محاكمة الخلق مما يعني أهمية التبليغ لأجل المحاكمة، وقال تبارك وتعالى: " رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" وبالتالي فإن مناط المحاكمة والمحاسبة في التشريع الإلهي هو إبلاغ الأحكام الشرعية والرسالة للناس.
وحكمه عند الفقهاء الوجوب، ففي فصول الأحكام لأبي الوليد الباجي: "لا تتم قضية القاضي إلا بعد الإعذار للمحكوم عليه".
وهو الأمر الذي أكدته أغلب القوانين الوضعية التي رتبت جزاء بطلان الحكم الذي صدر بدون تبليغ المحكوم عليه لسماع جوابه؛ وإن كان هذا المبدأ يسري عليه ما يسري على أغلب المبادئ التي يعتريها الاستثناء، ذلك أن القضاء ينظر في بعض الطلبات دون الالتفات إلى إعلام الطرف الآخر وتأمين مبدأ التواجهية، وهذا ما عليه الحال في القضاء الاستعجالي و مسطرة الأمر بالأداء مثلا الذي يمكن للطرف أن يحتكم إلى مجلس القضاء في غيبة نده إذا توفرت شروط ذلك" .
كما أن رفع الدعوى لا يرتب أي أثر باستثناء قطع أجلي السقوط والتقادم، ما لم يتم تبليغها إلى المدعى عليه لترتب باقي آثارها.
والتبليغ إما أن يكون قضائيا إذا تعلق بدعوى قائمة أمام القضاء، وإما غير قضائي وذلك إذا تعلق بواقعة لا تتصل بدعوى أمام القضاء.
ويقصد بالتبليغ القضائي إخبار الخصم في الدعوى بكل إجراء قضائي تم اتخاده أو سيتخذ ضده من طلبات ودفوع وأحكام حتى يعلم بها، ويتخذ من شأنها ما يراه متوافقا مع مصلحته في النزاع.
وقد نظم المشرع القواعد العامة للتبليغ في الفصول 37 و38 و39 من ق.م.م، غير أنه يرجع بخصوص قواعد التبليغ بواسطة القيم إلى مقتضيات الفصل 441 من ق.م.م، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار بأنه تمة بنود أخرى في نفس القانون المذكور وفي نصوص أخرى خاصة تنظم مسألة التبليغ.
وتتميز مسطرة التبليغ حسب هذه الفصول بأنها تضمن حق الدفاع الذي يهدف إلى تحقيق المساواة في المراكز الإجرائية للأطراف أمام المحاكم، فهو يتيح الفرصة للخصوم للتعبير عن وجهة نظرهم فيما قدمه كل منهم في مواجهة الآخر. وذلك من جواب وتعقيب أملا في إقناع المحكمة بإصدار حكمها لصالحه، وإذا ما صدر الحكم بلغ به الأطراف وكان للمحكوم عليه الحق في تنفيذه أو أن ينهج فيه سبيل الطعن المتاح.
فالتبليغ إذن يقوم على مبدأ التواجهية الذي يقوم على عدم جواز اتخاذ أي إجراء ضد شخص دون إعلامه وإعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه.
غير أن مسطرة التبليغ لا تخلو من عيوب بالرغم من الدور الإيجابي الذي تلعبه، فهي مسطرة خطيرة معقدة بسبب مجموعة من العوامل المتراكمة، الأمر الذي يجعلها سببا دون انطلاق وإتمام عملية التقاضي بالسرعة الواجبة للحسم في النزاعات في وقت مناسب وبنفقات قليلة.
كما أن من عيوبها، أنها تكون سببا أساسيا في بطء وتأخير البت في القضايا إذا لم تنفذ على الوجه المطلوب أو لم تؤدي المرجو فيها من إعلام المعلن له بالإجراء القضائي في حقه، وحتى على فرض أنها أجريت على الوجه المطلوب فإنها تكون محل طعون تسبب في ظهور نزاعات فرعية عن النزاع الأصلي، ولا يمكن بالتالي الحسم في النزاع الأصلي إلا بعد إقبار المولد الجديد الكبير، ألا وهو النزاع المتفرع عن النزاع الأصلي والذي يكون موضوعه دعوى بطلان إجراءات التبليغ.
لهذه الأسباب ولغيرها سعت أغلب التشريعات الحديثة إلى إصلاح منظومتها الإجرائية لمعالجة الإشكالات العملية لمسطرة التبليغ القضائي فأحدثت أنظمة جديدة تواكب التطور العلمي التكنولوجي الحاصل نظرا لأثره البليغ على المجتمعات، فما كان على التشريعات الحديثة إلا أن تستعين بالخدمات التي تقدمها وسائل الاتصال الحديثة واستغلالها في إصلاح منظومتها القضائية، وخاصة
الجانب الإجرائي منها لتفادي بعض عيوب المساطر الإجرائية التقليدية خاصة منها مسطرة التبليغ التي عجزت عن تأدية الدور المنوط بها على ما يرام، ونظرا لما تطرحه وسائل الاتصال الحديثة من مزايا في تقريب الإدارة من المتقاضي وتسهيل الحصول على المعلومة وتسهيل القيام بالإجراءات القضائية وتبسيطها ويسرها وتقليل تكلفتها وسرعة القيام بالإجراءات من خلالها إلى غير ذلك من محاسن جمة.
لهذا كان التشريع المغربي من بين التشريعات التي تسعى إلى تجويد العمل القضائي، فسارع بدوره إلى صياغة تقنيات تؤطر العمل بوسائل الاتصال الحديثة خاصة فيما يرتبط بمسطرة التبليغ في المادة المدنية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق