الأثر التطهيري لقرار التحفيظ



المقدمة:

تحظى الملكية العقارية بمكانة متميزة في حياة الإنسان، ويرتبط بها ارتباطا فطريا باعتبارها مصدر عيشه واستقراره واستمراره وزواله، مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى" قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون"؛ ومن خلال هذه الآية الكريمة نصل إلى حقيقة مطلقة مفادها أنه من الأرض انطلق الإنسان وعلى الأرض كان يعيش وإليها يسير.

هكذا إذن جاءت فكرة اكتساب الأرض من لدن الانسان كميراث مقدس، فسعى اليها حائزا، أو مالكا أو غاصبا، ولما كان الفرد مجبولا على كل هذا الحب للتملك والاستئثار بالأرض، أضحى لزاما رصد ترسانة قانونية، تكون بمثابة الضابط الإجرائي والمعيار الموضوعي من شأنه أن يتولى تنظيم وهيكلة الحقل العقاري، وإخراجه من منطلق التعاملات الكلاسيكية التي ساهمت في إفراز وبل من المنازعات الدائمة والتطاحنات طيلة عقود من الزمن إلى مجال الحماية القانونية للعقارية.

ولم يكن ظهير 12 غشت 1913 المعدل والمتمم بقانون 14.07 وما تلاه من القوانين، إلا إحدى آليات تدبير هذا المجال، وتوفير رصيد عقاري كاف وخال من المنازعات هو تحديد الملاك الحقيقيين وموقع عقاراتهم ووضعيتها المادية والقانونية بإخضاعها لنظام التحفيظ العقاري.

على أن إدخال العقار في نظام التحفيظ العقاري يقتضي سلوك مسطرة حددها القانون تتميز ببعض الخصوصية بحيث يجب أولا التقدم بمطلب التحفيظ الذي يكون موضوع إشهار واسع النطاق تم إجراء عملية التحديد وصولا إلى تأسيس رسم عقاري نهائي وغير قابل للطعن

ويترتب على التحفيظ تأسيس رسم الملكية مقيد بكناش عقاريء ومن شأنه هذا الرسم التي قد يكون للعقار المطلوب تحفيظه وضعية ثابتة بصورة نهائية وقاطعة، ويصبح مطهرا من أي حق آخر غير مسجل وبالتالي يصبح رسم الملكية هو المنطلق الوحيد لتحديد هوية العقار المحفظ من الناحيتين المادية والقانونية.

والحقيقة أن حقوق طالب التحفيظ تتأثر ايجابا مباشرة بعد الاعلان عن نجاح مسطرة التحفيظ، إذ يتضح جليا أن هناك فرق واضح بين حجية الحقوق العينية التي يتضمنها قرار التحفيظ، والحقوق التي يكتسبها الأغيار بعد تأسيس الرسم العقاري. حيث يستفيد طالب
التحفيظ من مركزه الجديد وتكتسب حقوقه قوة استثنائية وحصانة، وهو ما لا نجد له مثيلا في وضعيات قانونية أخرى، لكن الوجه السلبي لهذه الحماية المفرطة يظهر في الحالات التي تكون على حساب الغير استنادا إلى قاعدة التطهير.

إن قاعدة التطهير تعتبر الخاصية الأساس التي تترتب عن التحفيظ العقاري والمنظمة من خلال الفصلين 1 و62 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري.

ويقصد بقاعدة التطهير" تطهير الملك من جميع الحقوق السابقة غير المضمنة في السجل العقاري وبطلان من عدا ذلك، وهو نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية الناشئة على العقار”.

أما بخصوص التطور التاريخي لهذا الموضوع، فإن الشريعة الاسلامية لم تأتي بما يوجب إشهار التصرفات العقارية، بل جعلت العقود تتم بمجرد التراضي بين الطرفين، ورغم هذا فإنها اشترطت شكلية معينة في العقود والتصرفات تتمثل في الكتابة، حيث حثت شريعتنا الغراء على التدوين في قوله تعالى (يا أيها الدين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فأكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) إذن يتضح أن هذه الآية تحث على حفظ المحررات وشهرها واعتبرت هذا الشهر نوع من التنظيم العملي الذي يحفظ أموال الناس وينظم المعاملات بينهم. لكن وبزيادة أهمية الأرض كان لابد من ايجاد نظام لتنظيم الأراضي؛ وقد تم ذلك خلال عهد الدولة العثمانية سنة 945 هـ ، حيث قامت هيئة من كبار العلماء ورجال الدولة بتسجيل الأراضي والقرى وتم حفظ الدفاتر في مكان امين لا يتم فتحه الا بأمر من السلطان وبمعرفة هيئة من كبار موظفي الدولة .

أما في ظل العصور الحديثة وبالضبط سنة 1783، انشأت بروسيا نظاما يعتمد على سجلاات عقارية ذات صحائف متعددة، بحيث كل صحيفة تخصص لعقار معين، ولم تكن تعترف إلا بالتصرفات العقارية المقيدة في الصحيفة العينية للعقار .

أما في استراليا كان للسيد روبير ريشار تورانس - الموظف الجمركي - دور كبير في ارساء نظام الشهر العقاري العيني، وهذا النظام بدوره لم يكن يعترف الا بالحقوق المضمنة بالصحف العقارية دون غيرها من الحقوق.

أما في المغرب، وقبل دخول المعمر الفرنسي كانت الحيازة هي سيدة الميدان مع أنها لا تحمي الملكية العقارية بما فيه الكفاية ولا تساعد على استقراراها بحكم أنها حيازة مؤقتة ونسبية سرعان ما تصطدم بحيازة اخرى تحل محلها وهذا ما دفع بالمعمر الفرنسي الى ايجاد نظام بديل اكثر قوة وصلابة .وهذا ما دفع به الى اصدار ظهير 12 غشت 1913.

إعتمادا على ما سبق يلاحظ أن موضوع الأثر التطهيري لقرار التحفيظ يكتسي أهمية بالغة سواء على المستوى العلمي أو العملي، إذ تتجلى أهميته العلمية في كونه لقي اهتمام بالغ من طرف المؤسسة الملكية، إذ جاء في خطاب للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1995 ما يلي :"لا يمكن للمغرب أن يفتح أبوابه للمال الأجنبي إلا إذا كان هذا المال في مأمن من الشطط وسوء الفهم". وما انتهى منه الملك الراحل انطلق منه الملك محمد السادس الذي ندد بإعطاء عناية كافية للحفاظ على الملكية العقارية وتأطيرها بنصوص قانونية متينة حتى تكون مستجيبة للمطالب الإقتصادية والإجتماعية، إذ جاء في نص الرسالة الموجهة من لدنه الى المشاركين في الندوة الوطنية حول السياسة العقارية ما يلي :"وبما أن النهووض بالاستثمار رهين بتوفر العقار بإعتباره الأرضية التي تحقق المشاريع التنموية والاستثمارية فإنه يتعين تركيز الجهود على تيسير ولوج المستثمرين الى العقار وتبسيط مساطر العقار العمومي وضمان الولوج اليه وفق قواعد الشفافية وتكافؤ الفرص ...". كما أن هذا الموضوع حضي باهتمام بالغ من طرف الفاعلين والمهتمين بالمجال القانوني العقاري، بحيث خصصوا له دراسات وكتابات وافرة حتى بغية توضيح الرؤيا حول قاعدة التطهير بشكل مستفيض. وذلك من خلال البحث في التغرات القانونية التي تحيط بتطبيق بتطبيق هذه القاعدة والتي من شأنها الحاق اضرار بالغير، وكذلك البحث في دور هذه القاعدة في تثبيت الملكية العقارية على المستويين المادي والقانوني. وكذا دورها في ادخال اكبر عدد مكمن من العقارات الى نظام العقارات المحفظة وهو ما من شأنه أن يشجع التعامل بهذه العقارات وكذا التقليل من المنازعات التي قد تثار بشأنها. وتتجلى الأهمية العملية للموضوع كونه يعتبر صلة مباشرة للتعامل مع الإجتهاد القضائي كما أن أهمية الموضوع العملية تتجسد في كون قرار التحفيظ هو الذي يمنح العقار والملكية العقارية الثبات والاستقرار، الشيء الذي سيؤدي إلى تحقيق الأمن العقاري وتشجيع الإستثمار.

وتأسيسا على كل ما سبق ذكره يصبح مشروعا بسط الأسئلة التالية:
كيف نظم المشرع المغربي قاعدة الاثر التطهيري الواردة على الرسم العقاري؟
كيف عمل المشرع المغربي على حماية بعض الأصناف من العقارات من خلال عدم إخضاعها للآثر التطهيري؟
ما هي الضمانات القانونية والقضائية التي خولها المشرع للمتضرر من قاعدة الأثر التطهيري؟
كيف تعامل الفقه والقضاء المغربيين مع هذا المعطى القانوني؟

من خلال هذه التساؤلات يمكن طرح الإشكالية التالية:
إلى أي حد يمكن القول بأن التشريع والقضاء المغربيين توفقا في ضمان حماية قوية للملكية العقارية عملا بقاعدة الأثر التطهيري وكيف تمت حماية المتضرر من هذه القاعدة ؟

وبعد تحديد الإشكالية الرئيسية التي يطرحها الموضوع والتساؤلات المتفرعة عنها ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين؛ بحيث سنتناول في (المبحث الثاني) مدى دستورية قاعدة التطهير وموقف الفقه والقضاء من المسألة، ولكن قبل ذلك سنتناول في (المبحث الأول ) قاعدة ألأثر التطهيري بين الإطلاق والتقييد.


شاركه على جوجل بلس
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق