محمد المهدي
أستاذ بالكلية متعددة التتخصصات بتازة
بالنظر إلى كون الشرائع الوضعية هي نتاج عقل بشري، وعقول البشر قاصرة عن بلوغ حد الكمال، فمن الطبيعي أن يكون ما تشرعه من أحكام هو بدوره دون الكمال، ومن ثم فالقصور فيه وارد والتحسب له واجب، ولهذا تحرص معظم التشريعات على النص في بعض تقنيناتها الأساسية على إرشاد القاضى إلى ما يجب عليه عمله إذا لم يجد فيها نصا يحكم الواقعة المعروضة عليه، فنراها تحيله - بحثا عن الحكم - إلى مصدر آخر أو أكثر ليستمد الحكم منه، كيلا يتنصل من الفصل في الدعوى ويترك النزاع قائما بين الخصوم بغير حسم.
ومن القوانين المغربية التى نجدها تحيل في بعض موادها على مصادرها التكميلية/ الاحتياطية في كل ما لم يرد به نص، مدونة الحقوق العينية من خلال الفقرة الثانية من المادة 1، ومدونة الأوقاف من خلال المادة 169 ومدونة الأسرة من خلال المادة 400؛ غير أن ما يثير الفضول العلمي برغم اختلاف طبيعة هذه القوانين الثلاثة، هو إحالة المشرع في القانون الأول على قانون الالتزامات والعقود مباشرة إذا تعذر وجود النص/ الحل فيه، في حين يحيل في الثاني مباشرة على المذهب المالكي. راجحا ومشهورا وما جرى به العمل، بينما يحيل في الثالث على المذهب المالكى وغيره من الاجتهادات في إطار تراتبى، ما يدفعنا إلى التساؤل بشدة حول ما إذا كان المشرع يقصد فعلا تجاوز مقتضيات قانون الالتزامات والعقود في القانونين الأخيرين والبحث في مجال الاجتهاد الفقهي الإسلامي قصد فهم المصطلحات وتتميم النقص وكشف الغموض، رغم أنه يتضمن قواعد عامة وأخرى خاصة تخدم وتضبط قضايا الأوقاف والأسرة بشكل أو بآخر كما سنرى: أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خللا تشريعيا يتعين استدراكه في مقبل الأيام؛ أملا
في تعزيز وتقوية مركز القانون المدني المغربي ضمن المنظومة التشريعية المغربية بصفته الشريعة العامة للقانون الخاص.
بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار ق.ل.ع.م مصدرا تكميليا وإن لم ينص عليه المشرع؟ أم لابد من التنصيص عليه صراحة حتى يتم اعتباره مصدرا تكميليا ؟.
هذا ما تحاول المداخلة بكل تواضع الإجابة عنه في إطار فهم شخصي. نابع من قناعتي كباحث، وذلك من خلال محورين اثنين؛ نبين في أولهما مدى قدرة ق.ل.ع.م على ضبط قضايا الأسرة والأوقاف التي لم يرد فيها نص (المبحث الأول)؛ ثم نعرض في ثانيهما لمبررات الرجوع إلى ق.ل.ع في الحدود الممكنة قبل التعريج على الفقه الإسلامى ف هذه القضايا (المبحث الثاني).
تضمنت مدونة الأسرة العديد من المقتضيات، منها ما يهم الزواج ومنها ما يهم الفرقة الزوجية، ومنها ما يهم الولادة ونتائجها، ومنها مايهم الأهلية والنيابة القانونية، ومنها ما يهم الوصايا والميراث، منتهية في ذلك إلى القول في المادة 400 بأن: " كل مالم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
والأمثلة التي لم يرد بها نص في هذه المدونة كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - عيوب الإرادة.
تطرقت مدونة الأسرة إلى موضوع عقد الزواج المشوب بإكراه أو تدليس في المادة 12، لعدم تصور غيرهما من عيوب الإرادة في الزواج؛ محيلة على المادة 63 التي تنص على أنه: "يمكن للمكره أو المدلس عليه من الزوجين بوقائع كان التدليس بها هو الدافع إلى قبول الزواج أو اشترطها صراحة في العقد. أن يطلب فسخ الزواج قبل البناء وبعده خلال أجل لا يتعدى شهرين من يوم زوال الإكراه ومن تاريخ العلم بالتدليس مع حقه في طلب التعويض". فهذا النص لا يبين شروط الإكراه مثلا لتكون المطالبة بفسخ الزواج مبنية على أساس قانوني، مع ملاحظة أن المشرع المغربي نظمها في ق.ل.ع إلى جانب العيوب الأخرى في الفصول 46 إلى 53.
2 - التعويض.
تطرقت مدونة الأسرة للتعويض في عدد من القضايا دون بسط الكلام عن آلياته، كما في المادة 7 التي تنتحدث عن التعويض عن فسخ الخطبة، حيث جاء فيها: "إذا صدر عن أحد الطرفين فعل سبب ضررا للآخر، يمكن للمتضرر المطالبة بالتعويض". طبعا على أساس المسؤولية التقصيرية لأننا لسنا بصدد عقد. وكذلك في حالة التعويض عن فسخ الزواج الذي يبرم نتيجة إكراه أو تدليس (المادة 63 من مدونة الأسرة)، فضلا عن المادة 97، التي نصت على مراعاة المحكمة مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر.
3 - التقادم
نصت المدونة في الفقرة الثالثة من المادة 33 على أنه لا يخضع الصداق لأي تقادم، دون تقييد ذلك حسب ما يبدو من ظاهر النص ببقاء العلاقة الزوجية، مع ملاحظة أن ق.ل.ع تضمن هذا الحكم، لكن قيده صراحة ببقاء العلاقة الزوجية في الفصل 378، وفي مقابل ذلك لم تنص على مسألة التقادم بين ناقص الأهلية والوصي أو المقدم كما فعل قانون الالتزامات والعقود.
4 - عقد التدبير المشترك للأموال المكتسبة
نصت المدونة في المادة 49 على أنه يجوز للزوجين في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية، الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، وذلك في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، تجسد في ذاتها عقدا ماليا، دون تبيان أحكام هذا العقد ولا لتكييفه.
5- قسمة التركات
نصت المدونة في المادة 395 على أن: "لكل من استحق نصيبا من التركة بطريق الفرض أو التعصيب أو بهما أو بالوصية، الحق في أن يطلب فرز حصته بطريقة شرعية"؛ وذلك طبعا ليخرج من حالة الشياع، وهو ما لا يتأتى إلا بالقسمة، التي لم تبين المدونة مطلقا كيفيتها ولا ضوابطها، مع ملاحظة أن ق.ل.ع والقانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية، نظما هذا الموضوع بشكل مستفيض فضلا عن المقتضيات الواردة في قانون المسطرة المدنية.
وإذا كانت هذه القضايا أو النماذج الأسرية وغيرها، التي لم يبسط المشرع الكلام فيها في المدونة، تندرج بحق ضمن مالم يرد به نص في هذه المدونة، فإنه حسب المنطوق الحرفي للمادة 400 المارة بنا، يكون مجال بسط الكلام فيها هو الفقه الإسلامي وفي مقدمته الفقه المالكي بحكم ترتيبه من جهة وبحكم تسميته هو بالذات من جهة ثانية، وهو ما يرتئيه أكثر الباحثين، بحجة أن مدونة الأسرة تعد
الفضاء الرحب لاعتبار الفقه الإسلامى مصدرا رسميا يضفى على مادة القاعدة القانونية الطابع الملزم.
ونفس الشيء يصدق على قضايا الوقف كما سنرى.
ب: المصادر الاحتياطية لمدونة الأوقاف.
كان الإطار القانوني المنظم للوقف في المغرب قبل مدونة الأوقاف حسب الفصل 75 من ظهير 19 رجب 1333 هـ الموافق لـ2 يونيو 1915 الذي كان يحدد التشريع المطبق على العقارات المحفظة الذي حل محله القانون 39.08 يتمثل في القوانين والضوابط الخاصة والعوائد الإسلامية التي تجري عليها، وهذا يعني أن الأملاك الوقفية بالمغرب ظلت خاضعة - في غياب تشريع متكامل يتعرض لكافة الجوانب القانونية المرتبطة بالوقف - بصفة خاصة للأحكام والقواعد المنصوص عليها في الفقه المالكي؛ ما عدا عدد محدود من الظهائر التي كانت تنظم بشكل خاص بعض المسائل، من قبيل مسألة كراء الأملاك الحبسية أو المعاوضة بها، أو
تصفية المعقب منها”.
أما الآن، فإن المدونة بكل ما تضمنته من مقتضيات قانونية أصبحت مع صدور المراسيم التطبيقية لها هي المصدر الأساس الذي ينظم الأوقاف ببلادنا، مع ملاحظة أنه حسب المادة 169 منها فإن: "كل مالم يرد بشأنه نص فيها يرجع فيه إلى أحكام المذهب المالكي فقها واجتهادا بما يراعي فيه تحقيق مصلحة الوقف"
فكأن مجال التحرك هنا لا يخرج عن:
- النصوص القانونية المضمنة في المدونة من جهة، باعتبارها مصدرا أساسيا ينظم المجال الوقفي.
- والاجتهادات الفقهية داخل المذهب المالكى من جهة ثانية، باعتبارها مصدرا مكملا لهذه النصوص أو مصدرا احتياطيا لها.
خاصة وأن الوقف وإن أشير إليه كحق عيني في المادة 9 من مدونة الحقوق العينية، إلا أن هذه الأخيرة نصت في المادة 130 على أنه تطبق على حق الحبس الأحكام الواردة في مدونة الأوقاف. مما قد يعني في إطار القراءة غير الواعية استبعادا لقانون الالتزامات والعقود.
وكمثال على ما لم يرد به نص، نذكر فقط مسألتين، لأن غرضنا ليس هو استقراء جميل المسائل، بقدر ما مهمتنا تبيان الفكرة التى تدور حوها المداخلة:
1 - مسألة اشتراط سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاء.
بالرجوع إلى المادة 5 من مدونة الأوقاف المتعلقة بشروط الواقف. نجدها تنص على أنه: "يجب أن يكون الواقف متمتعا بأهلية التبرع، وأن يكون مالكا للمال الموقوف وله مطلق التصرف فيه". وهذا يعني أن الأمر يتعلق بشرطين فقط؛ هما: أهلية التبرع، وملكية الموقوف ملكية تامة، ليثور السؤال عن مدى اشتراط سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاءء كالإكراه والتدليس والغلط،
وعلى القول باشتراط ذلك يثور السؤال حول تقادم دعوى إبطال تصرف الوقف ومدته.
- وقف الفضولي:
يعتبر وقف الفضولي باطلا حسب المادة 9 من المدونة، إلا إذا أجازه/ أقره مالك المال الموقوف. شريطة استيفاء جميع أركان الوقف وشروطه. وجه ذلك أن المالك إذا أجازه كان في الحقيقة صادرا منه، وهذه الإجازة قد تكون صريحة، وقد تكون ضمنية كما في حالة السكوت. لكن المشرع لم يبين كيف يسوغ استناج الرضى أو الإقرار من السكوت في هذه الحالة.
وبناء عليه، وانطلاقا من المنطوق الحرفي لكل من المادتين 400 من مدونة الأسرة والمادة 169 من مدونة الأوقاف. يمكن القول أن المشرع لا يعترف كما هو واضح لقانون ل.ع بصفة المصدر التكميلي لا في مجال الأسرة ولا في مجال الوقف، حتى يلزم القاضي بالرجوع إليه كلما لم يجد نصا فيهما، وبالتالي فكل مالم يرد به نص أو به غموض فيهما كما في الأمثلة المذكورة يتعين ظاهرا الرجوع فيه إلى الاجتهاد الفقهي على النحو المار بنا، وفي مقدمته الفقه المالكي.
فما هو إذن التقييم الذي يمكن إعطاؤه لهذا التغييب ؟، هل هو تغييب مقصود لدى المشرع؟.
لايجادل أحد في أن دراسة القانون المدني تعتبر دعامة الدراسات القانونية كلها، فهو صلب القانون الخاص بل صلب القانون عموما، وما كل فروع القانون الأخرى التي استقلت عنه فيهما بعد والتي لحقتها أوصاف خاصة بها، إلا أفرع نبتت من جذره؛ ثم ترعرعت، ثم انفصلت.
وعلاقة الأبوة هذه بين القانون المدني وغيره من بقية فروع القانون أضفت عليه خصيصة في منتهى الأهمية، ألا وهي أنه يعتبر الشريعة العامة أو القانون الأصل بالنسبة لعلاقات الناس، بمعنى أنه لو خضعت علاقة معينة لأحكام فرع من فروع القانون الأخرى، وكانت هذه الأحكام ناقصة أو غامضة: فإنه يرجع في هذه الحالة إلى قواعد القانون المدني ليكمل النقص أو ليزال الغموض.
وإذا كان القانون المدني على هذا يعتبر حجر الأساس في بناء النظام القانوني الخاص، فإن الأصل فيه أن يجمع بين دفتيه مجموع الأحكام العامة التي تنظم علاقات الأفراد فيها بينهم، سواء كانت هذه العلاقات، علاقات أسرية أو علاقات مالية، غير أن هذا الأصل إن كان ينطبق على أغلب المجتمعات الغربية التي تتولى تنظيم هذين النوعين من العلاقات الخاصة بالأفراد في نطاق القانون
المدني، فإن طبيعة تكوين المجتمع في البلدان العربية/ الإسلامية بشكل عام؛ فرضت ضرورة الفصل - على خلاف الوضع طبعا في البلدان الغربية- ما بين الأحكام الخاصة بالأحوال الشخصية والأحكام الخاصة بالأحوال العينية، ويعود هذا الفصل والتمييز إلى الطبيعة الخاصة للقواعد المنظمة للعلاقات الأسرية وما تتمتع به من ترابط وثيق واتصال بالمعتقدات الدينية للأفراد بشكل تبدو فيه فكرة الحلال والحرام فكرة بارزة وشديدة الوضوح في هذا النطاق.
غير أن هذا الفصل لا يبدو مطلقا إلى حد القطيعة في منظومتنا التشريعية كا لا يخفى، بدليل أن ق.ل.ع تناول فعلا جملة من القضايا تدخل في صميم مجال الأسرة، كما هو الشأن بالنسبة لتقادم الصداق، وتحديد ما ينتقل من التركة إلى الورثة، وتحديد رتبة الديون الناشئة عن مهر الزوجة ومتعتها ونفقتها ونفقة الأولاد ضمن الديون الممتازة على كل المنقولات، فضلا عن بعض جوانب النيابة القانونية، وغيرها.
وهذا يعنى أن هناك علاقة بين قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة لا ينبغي إغقالها أو تجاوزها، ومن جهة أخرى لا يبدو مستساغا هجر مثلا أحكام القسمة كما نظلمها ق.ل.ع وغيره، للبحث في ثنايا الفقه الإسلامي عن أحكام لها، بحجة أنه لم يرد بها نص في المدونة، وفي شروط الإكراه والتدليس، كيف يمكن الرجوع فيها إلى الفقه الإسلامي مع أن ق.ل.ع بينها إسهابا، مع ملاحظة أن دعوى الإكراه أو التدليس لا تعدو أن تكون دعوى لجبر الضرر، ثم كيف نتصور أن الصداق لا يتقادم أبدا رغم الفرقة بين الزوجين وصيرورتهما أجنبيين عن بعضها البعض إذا ما نحن استبعدنا ق.ل.ع بحجة أن المشرع المغربي لم ينص عليه كمصدر تكميلي للمدونة؟.
ولكل ذلك نعتقد أن المشرع حين أحال -حصرا- مباشرة على الفقه الإسلامي في المادة 400، إنما يقصد في القضايا الأسرية التي لا ينظمها أي قانون مغربي، وذلك استنادا إلى الوضع الغالب، لأن أغلب القضايا الأسرية لا تجد متنفسها الحقيقي ومرتعها الخصب إلا في الفقه الإسلامي بصفته المصدر المهين فيها، فكان طبيعيا أن يحيل عليه، وإلا فما ينظمه منها قانون معين، سواء عبر قواعد خاصة أو قواعد عامة، يكون الرجوع إليه من البداهة بمكان، والقول بغير ذلك من شأنه أن يحدث قطيعة بين القوانين المغربية التي من المفروض أن تشكل وحدة يربط بينها خيط ناظم؛ وأن يضفي على صفة التشريع منطق العبث .
وفي هذا الاتجاه يقول الأستاذ الكشبور: "رغم أن مدونة الأحوال الشخصية قد أحالت من خلال المواد 82 و172 و216 و2972 على الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك، فإننا نعتقد أن تطبيق ق ل ع يمكن في هذا المجال خاصة فيما يتعلق بالاتفاق والتقادم .."
أما الأستاذ الخمليثي وإن كان يستبعد اعتبار ق.ل.ع.م مصدرا تكميليا لمدونة الأسرة» يلزم القاضي بالرجوع إليه. حيث قال في إحدى مداخلاته: "في رأينا الشخصي ليس ظ ل.ع مصدرا قانونيا تكميليا، يلزم القاضي بالرجوع إليه عند انعدام النص في المدونة والفقه» كما أنه ليس نصا أجنبيا لا يجوز الرجوع إليه ولو انعدم النص في هذين المصدرين» ويكون على القاضي ني هذه الحالة البحث عن
الحكم من خلال الاجتهاد في تفسير مبادئ وقواعد المذهب المالكي، ويترك النص الصريح في ظ ل ع" إلا أنه في مقابل ذلك يعتبره مصدرا استثنائيا: "بمعنى أن للمحكمة على سبيل الاختيار إذا لم تجد نصا في المدونة والفقه، أن ترجع إليه أو تجتهد في استنباط الحكم من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها". بل إنه يرى أن: "لما الحق في تطبيقه بصورة استثنائية ولو مع وجود النص في الفقه متى كان الحكم الفقهي غير ملائم للتطبيق، وهي مختارة في ذلك، ولكن في جميع الحالات يجب عليها تبرير الاختيار أو الاستثناء الذي التجأت إليه بملاءمته للواقعة المعروضة عليها، مع بيان أسباب استبعاد الحل أو الحلول الأخرى الممكنة التطبيق". هذا التبرير الذي يحلل ويبرز ملاءمة الحل المحكوم به لواقع الحياة وما يحققه من أهداف التنظيم الاجتماعي المرغوب فيه"'.
وإذا كان الفهم يصدق على قضايا الأسرة، فإنه يصدق بشكل أحرى وأوضح في قضايا الأوقاف، خصوصا وأن عقد الوقف هو تصرف قانوني لا يبدو منطقيا فصله عن باقي التصرفات القانونية المنظمة في ق.ل.ع فصلا تاما، يكفي التدليل على ذلك بالمثالين السابقين.
فعقد الوقف كا لا يخفى، كسائر العقود الأخرى يتوقف في صحته على مدى سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاء، وهذه العيوب ينبغي أن يرجع فيها إلى الأحكام العامة لنظرية العقد من قانون الالتزامات والعقود المغربي في باب الغلط والإكراه والتدليس، أما الغبن فلا تطبيق له هنا لأنه لا يتصور إلا في المعاوضات كا مر بناء غير أن هذه العيوب تجعل عقد الوقف قابلا للإبطال وليس باطلا.
على أن دعوى الإبطال في هذا الباب تتقادم بمضي سنة حسب الفصل 311 من ق.ل.ع.م، تحتسب (حسب الفصل 312 من نفس القانون) في حالة الإكراه من يوم زواله، وفي حالتي الغلط والتدليس من يوم اكتشافهما، وإذا توفي الواقف قبل انقضاء أمد التقادم فإن دعوى الإبطال تنتقل إلى الورثة فيما بقي منه حسب الفصل 313 من ق.ل.ع.م.
وبالنسبة لكيفية استنتاج الرضى أو الإقرار في وقف الفضولي، نرى أولوية تطبيق مقتضيات الفصل 38 من ق.ل.ع.م الذي جاء فيه أنه: "يسوغ استنتاج الرضى أو الإقرار من السكوت إذا كان الشخص الذي يحصل التصرف في حقوقه حاضرا أو أعلم بحصوله على وجه سليم ول يعترض عليه من غير أن يكون هناك سبب مشروع يبرر سكوته"، كأن يكون مكرها مثلا.
وطبعا هذه الإجازة - أو الإقرار- تنتج أثرها في حق المالك المقر فيما يرتبه - له وعليه من وقت إبرام عقد الوقف الذي حصل إقراره ما لم يصرح بغير ذلك، ويظهر أثر هذا المقتضى على مستوى غلة الموقوف. ذلك أن الموقوف عليه يستوفيها من تاريخ إبرام الوقف. مالم يصرح الواقف مثلا بأن الوقف ينعقد من تاريخ الإجازة، ففي هذه الحالة لا يكون نماء الموقوف للموقوف عليه، وإنما للمالك.
وليس معنى كلامي هذا أن يطلق العنان في الرجوع إلى ق.ل.ع، فالرجوع الذي أقول به إنما هو في حدود ضيقة وليس مطلقا، ولنا مؤيدات ومبررات تدعمه؛ خاصة مع ما يترتب عليه من نتائج مرضية؛ هذا ما سنقف عليه في المبحث الموالي.
في ضوء ما مر بنا نستطيع أن نقول بإمكانية الرجوع إلى ق.ل.ع رغم عدم التنصيص عليه ضمن المصادر الاحتياطية لكن في حدود ضيقة، أي في حدود القواعد والمبادئ العامة، التي تحكم وتضبط الاتفاقات والتعويض والتقادم وما إلى ذلك، وفي حدود ما تمت مقاربته فيه من قضايا أسرية، من قبيل عدم تقادم الالتزامات بين الزوجين (الفصل 378)، واحتلال نفقة الزوجة وصداقها المرتبة
الرابعة في الديون الممتازة على كل المنقولات (الفصل 1248): مع استبعاد ما يتناقض مع مدونة الأسرة، كما هو الشأن بالنسبة للفصل 11 من ق.ل.ع الذي يفرض عل النائب ب الشرعي للقاصر، سواء كان وليا أو وصيا أو مقدماء الحصول على إذن صريح من القاضي المكلف بشؤون القاصرين لإجراء بعض التصرفات القانونية الخاصة بأموال القاصر، بخلاف المادتين 240 و271 من مدونة الأسرة اللتين تستثنيان من ذلك إذن الولي الشرعي تماشيا مع أحكام الفقه المالكي الذي يجعل تصرفات هذا الأخير نيابة عن ابنه القاصر محمولة كقاعدة عامة على الصلاح والسداد، وأيضا بالنسبة للفصل 4 من ق.ل.ع الذي يجعل تصرفات القاصر العوضية قابلة للإبطال، بينا يجعلها البند الثالث من المادة 225 من مدونة الأسرة موقوفة فقط على إجازة النائب الشرعى حسب المصلحة الراجحة، وشتان ما بين الحكمين من حيث آثارهما القانونية، وأيضا بالنسبة للفصل 229 الذي ينص على انتقال التركة بها وما عليها إلى الورثة، وهو ما يتعارض جملة وتفصيلا مع المادة 329 من مدونة الأسرة التي تنص على انتقال الحقوق إليهم دون الالتزامات!
ولذلك لا نوافق ما ذهب إليه القضاء المغربي وعلى رأسه محكمة النقض أيام كانت تحت مسمى المجلس الأعلى، من استبعاد ظ.ل.ع حتى في مبادئه العامة كما في قرار الغرفة الاجتاعية بتاريخ 1 يناير 2 ملف عدد 21790783 والذي يتعلق بطلب تعويض قدمه الزوج ضد زوجته التي رفضت الرجوع إلى بيت الزوجية بعد الحكم عليها بالرجوع وإدانتها بجريمة إهمال الأسرة، وذلك لما
لحقه من تصرفها هذا من ضرر مادي ومعنوي، وذلك في إطار المبادئ العامة للمسؤولية المدنية.
ذلك أنه حكم ابتدائيا بالتعويض للمدعي، لكن محكمة الاستئناف ألغت الحكم ورفضت الدعوى، وقد أيدتها محكمة النقض معللة قرارها بأن الطرفين يرتبطان بعقد الزوجية الذي يخضع من حيث صحته وآثاره إلى مدونة الأحوال الشخصية التي لم تقرر للنشوز جزاء آخر غير حق الزوج في طلب إيقاف النفقة الواجبة عليه.
فهذا التوجه القضائي الذي رفض الدعوى بحجة أن المشرع لم ينظم المسؤولية في مدونة الأسرة، يبدو غير سليم، ولعل ذلك ما جعله عرضة لسهام النقد اللاذع من طرف بعض الفقه. وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد الخمليشي ومحمد الكشبور.
وما ذهبنا إليه، نرومه بالأولى في مدونة الأوقاف، على اعتبار أن الوقف تصرف قانوني مالي، كغيره من التصرفات القانونية، ينبغي أن يخضع للقواعد العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود وغيره من القوانين ذات الصلة، ولذلك فإن مالم يذكره المشرع في مدونة الأوقاف بشأن هذا الجانب يجب إتمامه من مظانه في ق.ل.ع.م وغيره، خاصة وأن من بين الأهداف المعلنة في ديباجتها تحقيق الانسجام بين المقتضيات المنظمة للأوقاف مع مكونات المنظومة التشريعية المغربية.
وأما ما يتعلق بخصوصيات الوقف فينبغي التعامل معها في إطارها الفقهي، مع التنبيه إلى أن هذه الازدواجية ستظهر بعض إشكالياتها على مستوى التطبيق، مما يقتضى من القضاء شيئا من الحذر، فهناك مثلا مصطلحات مشتركة بين ما هو فقهي وقانون، كما هو الشأن بالنسبة لمصطلح البطلان، فإن ورد في خصوصيات الوقف فغالبا ما يكون المقصود به هو عدم التمام المعبر عنه في فقهنا المالكي، الذي يكاد يقابل ما يسمى في ق.ل.ع.م بالقابلية للإبطال، وإن ورد في القواعد القانونية العامة فيتبغي أن يفهم في ضوء القانون، أي البطلان الذي لا يجوز الاتفاق على مخالفته.
كثيرة هي المبررات المتضافرة، التي نراها تدعم وتزكي القول بالرجوع إلى ق.ل.ع في كل مالم يرد به نص في القضايا محل الدراسة، يكفي منها ما يلي:
1 - أولا: لأنه قانون مغربي، وإن كان ظهير 26 يناير 1965 لم يعتبره قانونا مدنيا مغربيا بالمفهوم الاجتماعي للعبارة، فرغم أنه وضع في بادئ الأمر لكي ينطبق على الفرنسيين وغيرهم من الأجانب وليس على المغاربة، إلا أن المشرع مدده إلى العنصر المغربي سنة 1965، مما لا يمكن اعتباره نصا أجنبيا يمنع الاستئناس به نهائيا، فالواقع أنه قانون تطبقه المحاكم على جميع المواطنين وفي كل أنواع القضايا المدنية التي ينظمها، مع ملاحظة أنه لا يوجد فيه ما يمنع تطبيق مقتضياته أو بعضها على قضايا الأسرة أو قضايا الأوقاف ذات الصلة، خاصة على مستوى القواعد العامة.
2 - ثانيا: لأنه لا يتعارض من حيث المبدأ مع قواعد الفقه الإسلامي بصفة عامة، ومع الفقه المالكي بصفة خاصة. لاسيما وأنه مستمد في الأصل من مدونة الموجبات والعقود التونسية لسنة 1906، وهي عبارة -كما هو في علم المهتمين- عن قواعد توفيقية بين التشريعات الأوربية الحديثة آنذاك والشريعة الإسلامية وعلى الخصوص الفقه المالكي السائد في تونس والمغرب، خاصة وأن هناك من يرى أن الفقه الإسلامي هو المصدر المهيمن على ق.ل.ع.م (الأستاذ بلعكيد)، وإن كان الأستاذ شيلح يرى عكس ذلك، فهو يرى في إحدى مقالاته أن متوسط نسبة التأثير بالفقه الإسلامي وحده لا تتجاوز نسبة 17.35 في المئة.
3 - ثالثا: باعتباره يمثل الشريعة العامة أو القانون الأصل الذي يلتجئ إليه القاضي لسد الفراغ العالق ببعض فروع القانون الخاص الأخرى كالقانون التجاري وقانون الشغل ومختلف القوانين العقارية، بل وحتى في مجال تنازع القوانين العمود الفقري للقانون الدولي الخاصء كالفقرة الأولى من المادة الثالثة، التي تصرح بأن الأهلية المدنية للشخص تخضع لقانونه الوطني، فلماذا نعترف بفضله على هذه القوانين ويجحد وينكر دوره في قضايا الوقف والأسرة؟.
4 - رابعا: لأنه يفضي إلى نتائج مرضية، لعل من أهمها:
- تحقيق الأمن القانوني.
فالأمن أو الاستقرار القانوني كما هو في علم الجميع من ملامح دولة الحق والقانون، وهو: "يعني في حقيقة الأمر أن تكون القواعد
القانونية مؤكدة ومحددة في تنظيمها للمراكز القانونية، أو تضمن تأمين النتائج بحيث يستطيع كل فرد أن يتوقع مقدما نتائج أفعاله وتصرفاته من حيث ماله وما عليه"، ويعتمد على ذلك في كل ما يمكنه اتخاذه من الاحتياط والوقاية اللازمين، وهذا يعني أن الأمن القانوني مرتبط ارتباطا وثيقا بإمكانية التنبؤ بالقانون.
أما الرجوع مثلا إلى المذاهب، أو حتى إلى المذهب المالكي بمفرده، خاصة مع عدم تقييد ذلك براجح أو مشهور أو ما جرى به العمل، فلا يجعل عنصر التوقع حاضرا، خاصة أمام الاختلاف المتوقع بين أفهام القضاة فيما يتراءى لهم أنه يحقق قيم العدل والمساواة.
- خلق الانسجام بين القوانين المغربية ومراعاة الواقع.
على اعتبار أن الرجوع إلى أحكام المذهب لا ينبغي أن يتم بمعزل عن أحكام القانون المغربي، لاسيما الأحكام العامة منه وأحكامه الشكلية، وذلك حتى لايتم اقتباس حكم نسير في ضوئه على عكس ما يجري في الواقع.
- تخفيف العبء على القضاء.
فالقول بإطلاقية الإحالة سواء في المادة 169 من مدونة الأوقاف، أو في المادة 400 من مدونة الأسرة، يفضى إلى تكبيد المحكمة عناء البحث في كتب المذهب المالكي وغيره من المذاهب، والحال أن بين يديه نصوصا قانونية قد تحقق له المطلوب، وتوفر عليه الوقت، مع ملاحظة أن فئة ليست قليلة من القضاة لا يتقنون التعامل مع الفقه الإسلامي ونظرياته، بحكم كثرة الملفات أو بحكم
تخصصهم. أو بحكم طبيعة النظام الجامعي الذي درسوا في ظلاله، فكما لا يخفى أن الإصلاح الجامعي الجديد الذي ابتليت به الجامعات المغربية مع كل أسف شديد. لم يعد يخصص للفقه الإسلامي أي حيز ضمن المواد الذي تدرس في مسالك القانون، وهذا من مآسي الاقتباس غير الواعي من الآخر.
الإحالة على الفقه الإسلامي في المدونتين فمجالها القواعد الخاصة، خاصة وأن وإذا كان لا أحد يجادل في ضرورة مراجعة ق.ل.ع.م من أجل تجديده عن طريق تخليصه من الشوائب والرواسب التي علقت به من طرف المستعمر، فضلا عن حذف ما يتعارض فيه مع القوانين اللاحقة عليه، حتى يصبح ملائما لواقع الناس وحياتهم، خاصة وأن قرنا من الزمان ونيف مر عليه، عرف فيه المغرب عددا مهما من التحولات الاقتصادية والاجتاعية والسياسية والقانونية، يتعين معها تحديثه ومراجعته ليكون في مستوى مواكبتها، فإنه يجب إذا حصلت هذه المراجعة التي ينبغي أن تنم في ظل الثوابت المغربية والحاجات المجتمعية، أن يبين فيها مجال تطبيقه، وتحديد علاقته وضبط صلته بباقي القوانين بشكل أوضح يرفع كل لبس أو غموض. من جهة ويسهم في تحقيق الأمن القانوني من جهة ثانية.
مجلة القانون المدني - العدد الثاني 2015 -
أستاذ بالكلية متعددة التتخصصات بتازة
مقدمة:
بالنظر إلى كون الشرائع الوضعية هي نتاج عقل بشري، وعقول البشر قاصرة عن بلوغ حد الكمال، فمن الطبيعي أن يكون ما تشرعه من أحكام هو بدوره دون الكمال، ومن ثم فالقصور فيه وارد والتحسب له واجب، ولهذا تحرص معظم التشريعات على النص في بعض تقنيناتها الأساسية على إرشاد القاضى إلى ما يجب عليه عمله إذا لم يجد فيها نصا يحكم الواقعة المعروضة عليه، فنراها تحيله - بحثا عن الحكم - إلى مصدر آخر أو أكثر ليستمد الحكم منه، كيلا يتنصل من الفصل في الدعوى ويترك النزاع قائما بين الخصوم بغير حسم.
ومن القوانين المغربية التى نجدها تحيل في بعض موادها على مصادرها التكميلية/ الاحتياطية في كل ما لم يرد به نص، مدونة الحقوق العينية من خلال الفقرة الثانية من المادة 1، ومدونة الأوقاف من خلال المادة 169 ومدونة الأسرة من خلال المادة 400؛ غير أن ما يثير الفضول العلمي برغم اختلاف طبيعة هذه القوانين الثلاثة، هو إحالة المشرع في القانون الأول على قانون الالتزامات والعقود مباشرة إذا تعذر وجود النص/ الحل فيه، في حين يحيل في الثاني مباشرة على المذهب المالكي. راجحا ومشهورا وما جرى به العمل، بينما يحيل في الثالث على المذهب المالكى وغيره من الاجتهادات في إطار تراتبى، ما يدفعنا إلى التساؤل بشدة حول ما إذا كان المشرع يقصد فعلا تجاوز مقتضيات قانون الالتزامات والعقود في القانونين الأخيرين والبحث في مجال الاجتهاد الفقهي الإسلامي قصد فهم المصطلحات وتتميم النقص وكشف الغموض، رغم أنه يتضمن قواعد عامة وأخرى خاصة تخدم وتضبط قضايا الأوقاف والأسرة بشكل أو بآخر كما سنرى: أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خللا تشريعيا يتعين استدراكه في مقبل الأيام؛ أملا
في تعزيز وتقوية مركز القانون المدني المغربي ضمن المنظومة التشريعية المغربية بصفته الشريعة العامة للقانون الخاص.
بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار ق.ل.ع.م مصدرا تكميليا وإن لم ينص عليه المشرع؟ أم لابد من التنصيص عليه صراحة حتى يتم اعتباره مصدرا تكميليا ؟.
هذا ما تحاول المداخلة بكل تواضع الإجابة عنه في إطار فهم شخصي. نابع من قناعتي كباحث، وذلك من خلال محورين اثنين؛ نبين في أولهما مدى قدرة ق.ل.ع.م على ضبط قضايا الأسرة والأوقاف التي لم يرد فيها نص (المبحث الأول)؛ ثم نعرض في ثانيهما لمبررات الرجوع إلى ق.ل.ع في الحدود الممكنة قبل التعريج على الفقه الإسلامى ف هذه القضايا (المبحث الثاني).
المبحث الأول: مدى قدرة ق ل ع على ضبط قضايا الأسرة والأوقاف التي لم يرد فيها نص.
لمقاربة هذه المسألة، نبين أولا المصادر الاحتياطية في كل من مدونة الأسرة ومدونة الأوقاف (أولا). ثم نبين هل يندرج قانون الالتزامات والعقود المغربي ضمن هذه المصادر أم لا (ثانيا).أولا: المصادر الاحتياطية لمدونة الأسرة ومدونة الأوقاف.
أ: المصادر الاحتياطية لمدونة الأسرة.تضمنت مدونة الأسرة العديد من المقتضيات، منها ما يهم الزواج ومنها ما يهم الفرقة الزوجية، ومنها ما يهم الولادة ونتائجها، ومنها مايهم الأهلية والنيابة القانونية، ومنها ما يهم الوصايا والميراث، منتهية في ذلك إلى القول في المادة 400 بأن: " كل مالم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
والأمثلة التي لم يرد بها نص في هذه المدونة كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - عيوب الإرادة.
تطرقت مدونة الأسرة إلى موضوع عقد الزواج المشوب بإكراه أو تدليس في المادة 12، لعدم تصور غيرهما من عيوب الإرادة في الزواج؛ محيلة على المادة 63 التي تنص على أنه: "يمكن للمكره أو المدلس عليه من الزوجين بوقائع كان التدليس بها هو الدافع إلى قبول الزواج أو اشترطها صراحة في العقد. أن يطلب فسخ الزواج قبل البناء وبعده خلال أجل لا يتعدى شهرين من يوم زوال الإكراه ومن تاريخ العلم بالتدليس مع حقه في طلب التعويض". فهذا النص لا يبين شروط الإكراه مثلا لتكون المطالبة بفسخ الزواج مبنية على أساس قانوني، مع ملاحظة أن المشرع المغربي نظمها في ق.ل.ع إلى جانب العيوب الأخرى في الفصول 46 إلى 53.
2 - التعويض.
تطرقت مدونة الأسرة للتعويض في عدد من القضايا دون بسط الكلام عن آلياته، كما في المادة 7 التي تنتحدث عن التعويض عن فسخ الخطبة، حيث جاء فيها: "إذا صدر عن أحد الطرفين فعل سبب ضررا للآخر، يمكن للمتضرر المطالبة بالتعويض". طبعا على أساس المسؤولية التقصيرية لأننا لسنا بصدد عقد. وكذلك في حالة التعويض عن فسخ الزواج الذي يبرم نتيجة إكراه أو تدليس (المادة 63 من مدونة الأسرة)، فضلا عن المادة 97، التي نصت على مراعاة المحكمة مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر.
3 - التقادم
نصت المدونة في الفقرة الثالثة من المادة 33 على أنه لا يخضع الصداق لأي تقادم، دون تقييد ذلك حسب ما يبدو من ظاهر النص ببقاء العلاقة الزوجية، مع ملاحظة أن ق.ل.ع تضمن هذا الحكم، لكن قيده صراحة ببقاء العلاقة الزوجية في الفصل 378، وفي مقابل ذلك لم تنص على مسألة التقادم بين ناقص الأهلية والوصي أو المقدم كما فعل قانون الالتزامات والعقود.
4 - عقد التدبير المشترك للأموال المكتسبة
نصت المدونة في المادة 49 على أنه يجوز للزوجين في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية، الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، وذلك في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، تجسد في ذاتها عقدا ماليا، دون تبيان أحكام هذا العقد ولا لتكييفه.
5- قسمة التركات
نصت المدونة في المادة 395 على أن: "لكل من استحق نصيبا من التركة بطريق الفرض أو التعصيب أو بهما أو بالوصية، الحق في أن يطلب فرز حصته بطريقة شرعية"؛ وذلك طبعا ليخرج من حالة الشياع، وهو ما لا يتأتى إلا بالقسمة، التي لم تبين المدونة مطلقا كيفيتها ولا ضوابطها، مع ملاحظة أن ق.ل.ع والقانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية، نظما هذا الموضوع بشكل مستفيض فضلا عن المقتضيات الواردة في قانون المسطرة المدنية.
وإذا كانت هذه القضايا أو النماذج الأسرية وغيرها، التي لم يبسط المشرع الكلام فيها في المدونة، تندرج بحق ضمن مالم يرد به نص في هذه المدونة، فإنه حسب المنطوق الحرفي للمادة 400 المارة بنا، يكون مجال بسط الكلام فيها هو الفقه الإسلامي وفي مقدمته الفقه المالكي بحكم ترتيبه من جهة وبحكم تسميته هو بالذات من جهة ثانية، وهو ما يرتئيه أكثر الباحثين، بحجة أن مدونة الأسرة تعد
الفضاء الرحب لاعتبار الفقه الإسلامى مصدرا رسميا يضفى على مادة القاعدة القانونية الطابع الملزم.
ونفس الشيء يصدق على قضايا الوقف كما سنرى.
ب: المصادر الاحتياطية لمدونة الأوقاف.
كان الإطار القانوني المنظم للوقف في المغرب قبل مدونة الأوقاف حسب الفصل 75 من ظهير 19 رجب 1333 هـ الموافق لـ2 يونيو 1915 الذي كان يحدد التشريع المطبق على العقارات المحفظة الذي حل محله القانون 39.08 يتمثل في القوانين والضوابط الخاصة والعوائد الإسلامية التي تجري عليها، وهذا يعني أن الأملاك الوقفية بالمغرب ظلت خاضعة - في غياب تشريع متكامل يتعرض لكافة الجوانب القانونية المرتبطة بالوقف - بصفة خاصة للأحكام والقواعد المنصوص عليها في الفقه المالكي؛ ما عدا عدد محدود من الظهائر التي كانت تنظم بشكل خاص بعض المسائل، من قبيل مسألة كراء الأملاك الحبسية أو المعاوضة بها، أو
تصفية المعقب منها”.
أما الآن، فإن المدونة بكل ما تضمنته من مقتضيات قانونية أصبحت مع صدور المراسيم التطبيقية لها هي المصدر الأساس الذي ينظم الأوقاف ببلادنا، مع ملاحظة أنه حسب المادة 169 منها فإن: "كل مالم يرد بشأنه نص فيها يرجع فيه إلى أحكام المذهب المالكي فقها واجتهادا بما يراعي فيه تحقيق مصلحة الوقف"
فكأن مجال التحرك هنا لا يخرج عن:
- النصوص القانونية المضمنة في المدونة من جهة، باعتبارها مصدرا أساسيا ينظم المجال الوقفي.
- والاجتهادات الفقهية داخل المذهب المالكى من جهة ثانية، باعتبارها مصدرا مكملا لهذه النصوص أو مصدرا احتياطيا لها.
خاصة وأن الوقف وإن أشير إليه كحق عيني في المادة 9 من مدونة الحقوق العينية، إلا أن هذه الأخيرة نصت في المادة 130 على أنه تطبق على حق الحبس الأحكام الواردة في مدونة الأوقاف. مما قد يعني في إطار القراءة غير الواعية استبعادا لقانون الالتزامات والعقود.
وكمثال على ما لم يرد به نص، نذكر فقط مسألتين، لأن غرضنا ليس هو استقراء جميل المسائل، بقدر ما مهمتنا تبيان الفكرة التى تدور حوها المداخلة:
1 - مسألة اشتراط سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاء.
بالرجوع إلى المادة 5 من مدونة الأوقاف المتعلقة بشروط الواقف. نجدها تنص على أنه: "يجب أن يكون الواقف متمتعا بأهلية التبرع، وأن يكون مالكا للمال الموقوف وله مطلق التصرف فيه". وهذا يعني أن الأمر يتعلق بشرطين فقط؛ هما: أهلية التبرع، وملكية الموقوف ملكية تامة، ليثور السؤال عن مدى اشتراط سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاءء كالإكراه والتدليس والغلط،
وعلى القول باشتراط ذلك يثور السؤال حول تقادم دعوى إبطال تصرف الوقف ومدته.
- وقف الفضولي:
يعتبر وقف الفضولي باطلا حسب المادة 9 من المدونة، إلا إذا أجازه/ أقره مالك المال الموقوف. شريطة استيفاء جميع أركان الوقف وشروطه. وجه ذلك أن المالك إذا أجازه كان في الحقيقة صادرا منه، وهذه الإجازة قد تكون صريحة، وقد تكون ضمنية كما في حالة السكوت. لكن المشرع لم يبين كيف يسوغ استناج الرضى أو الإقرار من السكوت في هذه الحالة.
وبناء عليه، وانطلاقا من المنطوق الحرفي لكل من المادتين 400 من مدونة الأسرة والمادة 169 من مدونة الأوقاف. يمكن القول أن المشرع لا يعترف كما هو واضح لقانون ل.ع بصفة المصدر التكميلي لا في مجال الأسرة ولا في مجال الوقف، حتى يلزم القاضي بالرجوع إليه كلما لم يجد نصا فيهما، وبالتالي فكل مالم يرد به نص أو به غموض فيهما كما في الأمثلة المذكورة يتعين ظاهرا الرجوع فيه إلى الاجتهاد الفقهي على النحو المار بنا، وفي مقدمته الفقه المالكي.
فما هو إذن التقييم الذي يمكن إعطاؤه لهذا التغييب ؟، هل هو تغييب مقصود لدى المشرع؟.
ثانيا: تغيبيب ق.ل.ع من دائرة الاحتياط لضبط القضايا المذكورة، محاولة في التقييم.
لايجادل أحد في أن دراسة القانون المدني تعتبر دعامة الدراسات القانونية كلها، فهو صلب القانون الخاص بل صلب القانون عموما، وما كل فروع القانون الأخرى التي استقلت عنه فيهما بعد والتي لحقتها أوصاف خاصة بها، إلا أفرع نبتت من جذره؛ ثم ترعرعت، ثم انفصلت.
وعلاقة الأبوة هذه بين القانون المدني وغيره من بقية فروع القانون أضفت عليه خصيصة في منتهى الأهمية، ألا وهي أنه يعتبر الشريعة العامة أو القانون الأصل بالنسبة لعلاقات الناس، بمعنى أنه لو خضعت علاقة معينة لأحكام فرع من فروع القانون الأخرى، وكانت هذه الأحكام ناقصة أو غامضة: فإنه يرجع في هذه الحالة إلى قواعد القانون المدني ليكمل النقص أو ليزال الغموض.
وإذا كان القانون المدني على هذا يعتبر حجر الأساس في بناء النظام القانوني الخاص، فإن الأصل فيه أن يجمع بين دفتيه مجموع الأحكام العامة التي تنظم علاقات الأفراد فيها بينهم، سواء كانت هذه العلاقات، علاقات أسرية أو علاقات مالية، غير أن هذا الأصل إن كان ينطبق على أغلب المجتمعات الغربية التي تتولى تنظيم هذين النوعين من العلاقات الخاصة بالأفراد في نطاق القانون
المدني، فإن طبيعة تكوين المجتمع في البلدان العربية/ الإسلامية بشكل عام؛ فرضت ضرورة الفصل - على خلاف الوضع طبعا في البلدان الغربية- ما بين الأحكام الخاصة بالأحوال الشخصية والأحكام الخاصة بالأحوال العينية، ويعود هذا الفصل والتمييز إلى الطبيعة الخاصة للقواعد المنظمة للعلاقات الأسرية وما تتمتع به من ترابط وثيق واتصال بالمعتقدات الدينية للأفراد بشكل تبدو فيه فكرة الحلال والحرام فكرة بارزة وشديدة الوضوح في هذا النطاق.
غير أن هذا الفصل لا يبدو مطلقا إلى حد القطيعة في منظومتنا التشريعية كا لا يخفى، بدليل أن ق.ل.ع تناول فعلا جملة من القضايا تدخل في صميم مجال الأسرة، كما هو الشأن بالنسبة لتقادم الصداق، وتحديد ما ينتقل من التركة إلى الورثة، وتحديد رتبة الديون الناشئة عن مهر الزوجة ومتعتها ونفقتها ونفقة الأولاد ضمن الديون الممتازة على كل المنقولات، فضلا عن بعض جوانب النيابة القانونية، وغيرها.
وهذا يعنى أن هناك علاقة بين قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة لا ينبغي إغقالها أو تجاوزها، ومن جهة أخرى لا يبدو مستساغا هجر مثلا أحكام القسمة كما نظلمها ق.ل.ع وغيره، للبحث في ثنايا الفقه الإسلامي عن أحكام لها، بحجة أنه لم يرد بها نص في المدونة، وفي شروط الإكراه والتدليس، كيف يمكن الرجوع فيها إلى الفقه الإسلامي مع أن ق.ل.ع بينها إسهابا، مع ملاحظة أن دعوى الإكراه أو التدليس لا تعدو أن تكون دعوى لجبر الضرر، ثم كيف نتصور أن الصداق لا يتقادم أبدا رغم الفرقة بين الزوجين وصيرورتهما أجنبيين عن بعضها البعض إذا ما نحن استبعدنا ق.ل.ع بحجة أن المشرع المغربي لم ينص عليه كمصدر تكميلي للمدونة؟.
ولكل ذلك نعتقد أن المشرع حين أحال -حصرا- مباشرة على الفقه الإسلامي في المادة 400، إنما يقصد في القضايا الأسرية التي لا ينظمها أي قانون مغربي، وذلك استنادا إلى الوضع الغالب، لأن أغلب القضايا الأسرية لا تجد متنفسها الحقيقي ومرتعها الخصب إلا في الفقه الإسلامي بصفته المصدر المهين فيها، فكان طبيعيا أن يحيل عليه، وإلا فما ينظمه منها قانون معين، سواء عبر قواعد خاصة أو قواعد عامة، يكون الرجوع إليه من البداهة بمكان، والقول بغير ذلك من شأنه أن يحدث قطيعة بين القوانين المغربية التي من المفروض أن تشكل وحدة يربط بينها خيط ناظم؛ وأن يضفي على صفة التشريع منطق العبث .
وفي هذا الاتجاه يقول الأستاذ الكشبور: "رغم أن مدونة الأحوال الشخصية قد أحالت من خلال المواد 82 و172 و216 و2972 على الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك، فإننا نعتقد أن تطبيق ق ل ع يمكن في هذا المجال خاصة فيما يتعلق بالاتفاق والتقادم .."
أما الأستاذ الخمليثي وإن كان يستبعد اعتبار ق.ل.ع.م مصدرا تكميليا لمدونة الأسرة» يلزم القاضي بالرجوع إليه. حيث قال في إحدى مداخلاته: "في رأينا الشخصي ليس ظ ل.ع مصدرا قانونيا تكميليا، يلزم القاضي بالرجوع إليه عند انعدام النص في المدونة والفقه» كما أنه ليس نصا أجنبيا لا يجوز الرجوع إليه ولو انعدم النص في هذين المصدرين» ويكون على القاضي ني هذه الحالة البحث عن
الحكم من خلال الاجتهاد في تفسير مبادئ وقواعد المذهب المالكي، ويترك النص الصريح في ظ ل ع" إلا أنه في مقابل ذلك يعتبره مصدرا استثنائيا: "بمعنى أن للمحكمة على سبيل الاختيار إذا لم تجد نصا في المدونة والفقه، أن ترجع إليه أو تجتهد في استنباط الحكم من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها". بل إنه يرى أن: "لما الحق في تطبيقه بصورة استثنائية ولو مع وجود النص في الفقه متى كان الحكم الفقهي غير ملائم للتطبيق، وهي مختارة في ذلك، ولكن في جميع الحالات يجب عليها تبرير الاختيار أو الاستثناء الذي التجأت إليه بملاءمته للواقعة المعروضة عليها، مع بيان أسباب استبعاد الحل أو الحلول الأخرى الممكنة التطبيق". هذا التبرير الذي يحلل ويبرز ملاءمة الحل المحكوم به لواقع الحياة وما يحققه من أهداف التنظيم الاجتماعي المرغوب فيه"'.
وإذا كان الفهم يصدق على قضايا الأسرة، فإنه يصدق بشكل أحرى وأوضح في قضايا الأوقاف، خصوصا وأن عقد الوقف هو تصرف قانوني لا يبدو منطقيا فصله عن باقي التصرفات القانونية المنظمة في ق.ل.ع فصلا تاما، يكفي التدليل على ذلك بالمثالين السابقين.
فعقد الوقف كا لا يخفى، كسائر العقود الأخرى يتوقف في صحته على مدى سلامة إرادة الواقف من عيوب الرضاء، وهذه العيوب ينبغي أن يرجع فيها إلى الأحكام العامة لنظرية العقد من قانون الالتزامات والعقود المغربي في باب الغلط والإكراه والتدليس، أما الغبن فلا تطبيق له هنا لأنه لا يتصور إلا في المعاوضات كا مر بناء غير أن هذه العيوب تجعل عقد الوقف قابلا للإبطال وليس باطلا.
على أن دعوى الإبطال في هذا الباب تتقادم بمضي سنة حسب الفصل 311 من ق.ل.ع.م، تحتسب (حسب الفصل 312 من نفس القانون) في حالة الإكراه من يوم زواله، وفي حالتي الغلط والتدليس من يوم اكتشافهما، وإذا توفي الواقف قبل انقضاء أمد التقادم فإن دعوى الإبطال تنتقل إلى الورثة فيما بقي منه حسب الفصل 313 من ق.ل.ع.م.
وبالنسبة لكيفية استنتاج الرضى أو الإقرار في وقف الفضولي، نرى أولوية تطبيق مقتضيات الفصل 38 من ق.ل.ع.م الذي جاء فيه أنه: "يسوغ استنتاج الرضى أو الإقرار من السكوت إذا كان الشخص الذي يحصل التصرف في حقوقه حاضرا أو أعلم بحصوله على وجه سليم ول يعترض عليه من غير أن يكون هناك سبب مشروع يبرر سكوته"، كأن يكون مكرها مثلا.
وطبعا هذه الإجازة - أو الإقرار- تنتج أثرها في حق المالك المقر فيما يرتبه - له وعليه من وقت إبرام عقد الوقف الذي حصل إقراره ما لم يصرح بغير ذلك، ويظهر أثر هذا المقتضى على مستوى غلة الموقوف. ذلك أن الموقوف عليه يستوفيها من تاريخ إبرام الوقف. مالم يصرح الواقف مثلا بأن الوقف ينعقد من تاريخ الإجازة، ففي هذه الحالة لا يكون نماء الموقوف للموقوف عليه، وإنما للمالك.
وليس معنى كلامي هذا أن يطلق العنان في الرجوع إلى ق.ل.ع، فالرجوع الذي أقول به إنما هو في حدود ضيقة وليس مطلقا، ولنا مؤيدات ومبررات تدعمه؛ خاصة مع ما يترتب عليه من نتائج مرضية؛ هذا ما سنقف عليه في المبحث الموالي.
المبحث الثاني: حدود الرجوع إلى ق.ل.ع كمصدر احتياطي غير مباشر: مبرراته وجدواه.
أولا: حدود الرجوع إلى ق.ل.ع كمصدر احتياطي.
في ضوء ما مر بنا نستطيع أن نقول بإمكانية الرجوع إلى ق.ل.ع رغم عدم التنصيص عليه ضمن المصادر الاحتياطية لكن في حدود ضيقة، أي في حدود القواعد والمبادئ العامة، التي تحكم وتضبط الاتفاقات والتعويض والتقادم وما إلى ذلك، وفي حدود ما تمت مقاربته فيه من قضايا أسرية، من قبيل عدم تقادم الالتزامات بين الزوجين (الفصل 378)، واحتلال نفقة الزوجة وصداقها المرتبة
الرابعة في الديون الممتازة على كل المنقولات (الفصل 1248): مع استبعاد ما يتناقض مع مدونة الأسرة، كما هو الشأن بالنسبة للفصل 11 من ق.ل.ع الذي يفرض عل النائب ب الشرعي للقاصر، سواء كان وليا أو وصيا أو مقدماء الحصول على إذن صريح من القاضي المكلف بشؤون القاصرين لإجراء بعض التصرفات القانونية الخاصة بأموال القاصر، بخلاف المادتين 240 و271 من مدونة الأسرة اللتين تستثنيان من ذلك إذن الولي الشرعي تماشيا مع أحكام الفقه المالكي الذي يجعل تصرفات هذا الأخير نيابة عن ابنه القاصر محمولة كقاعدة عامة على الصلاح والسداد، وأيضا بالنسبة للفصل 4 من ق.ل.ع الذي يجعل تصرفات القاصر العوضية قابلة للإبطال، بينا يجعلها البند الثالث من المادة 225 من مدونة الأسرة موقوفة فقط على إجازة النائب الشرعى حسب المصلحة الراجحة، وشتان ما بين الحكمين من حيث آثارهما القانونية، وأيضا بالنسبة للفصل 229 الذي ينص على انتقال التركة بها وما عليها إلى الورثة، وهو ما يتعارض جملة وتفصيلا مع المادة 329 من مدونة الأسرة التي تنص على انتقال الحقوق إليهم دون الالتزامات!
ولذلك لا نوافق ما ذهب إليه القضاء المغربي وعلى رأسه محكمة النقض أيام كانت تحت مسمى المجلس الأعلى، من استبعاد ظ.ل.ع حتى في مبادئه العامة كما في قرار الغرفة الاجتاعية بتاريخ 1 يناير 2 ملف عدد 21790783 والذي يتعلق بطلب تعويض قدمه الزوج ضد زوجته التي رفضت الرجوع إلى بيت الزوجية بعد الحكم عليها بالرجوع وإدانتها بجريمة إهمال الأسرة، وذلك لما
لحقه من تصرفها هذا من ضرر مادي ومعنوي، وذلك في إطار المبادئ العامة للمسؤولية المدنية.
ذلك أنه حكم ابتدائيا بالتعويض للمدعي، لكن محكمة الاستئناف ألغت الحكم ورفضت الدعوى، وقد أيدتها محكمة النقض معللة قرارها بأن الطرفين يرتبطان بعقد الزوجية الذي يخضع من حيث صحته وآثاره إلى مدونة الأحوال الشخصية التي لم تقرر للنشوز جزاء آخر غير حق الزوج في طلب إيقاف النفقة الواجبة عليه.
فهذا التوجه القضائي الذي رفض الدعوى بحجة أن المشرع لم ينظم المسؤولية في مدونة الأسرة، يبدو غير سليم، ولعل ذلك ما جعله عرضة لسهام النقد اللاذع من طرف بعض الفقه. وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد الخمليشي ومحمد الكشبور.
وما ذهبنا إليه، نرومه بالأولى في مدونة الأوقاف، على اعتبار أن الوقف تصرف قانوني مالي، كغيره من التصرفات القانونية، ينبغي أن يخضع للقواعد العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود وغيره من القوانين ذات الصلة، ولذلك فإن مالم يذكره المشرع في مدونة الأوقاف بشأن هذا الجانب يجب إتمامه من مظانه في ق.ل.ع.م وغيره، خاصة وأن من بين الأهداف المعلنة في ديباجتها تحقيق الانسجام بين المقتضيات المنظمة للأوقاف مع مكونات المنظومة التشريعية المغربية.
وأما ما يتعلق بخصوصيات الوقف فينبغي التعامل معها في إطارها الفقهي، مع التنبيه إلى أن هذه الازدواجية ستظهر بعض إشكالياتها على مستوى التطبيق، مما يقتضى من القضاء شيئا من الحذر، فهناك مثلا مصطلحات مشتركة بين ما هو فقهي وقانون، كما هو الشأن بالنسبة لمصطلح البطلان، فإن ورد في خصوصيات الوقف فغالبا ما يكون المقصود به هو عدم التمام المعبر عنه في فقهنا المالكي، الذي يكاد يقابل ما يسمى في ق.ل.ع.م بالقابلية للإبطال، وإن ورد في القواعد القانونية العامة فيتبغي أن يفهم في ضوء القانون، أي البطلان الذي لا يجوز الاتفاق على مخالفته.
ثانيا: مبررات الرجوع إلى ق.ل.ع.
كثيرة هي المبررات المتضافرة، التي نراها تدعم وتزكي القول بالرجوع إلى ق.ل.ع في كل مالم يرد به نص في القضايا محل الدراسة، يكفي منها ما يلي:
1 - أولا: لأنه قانون مغربي، وإن كان ظهير 26 يناير 1965 لم يعتبره قانونا مدنيا مغربيا بالمفهوم الاجتماعي للعبارة، فرغم أنه وضع في بادئ الأمر لكي ينطبق على الفرنسيين وغيرهم من الأجانب وليس على المغاربة، إلا أن المشرع مدده إلى العنصر المغربي سنة 1965، مما لا يمكن اعتباره نصا أجنبيا يمنع الاستئناس به نهائيا، فالواقع أنه قانون تطبقه المحاكم على جميع المواطنين وفي كل أنواع القضايا المدنية التي ينظمها، مع ملاحظة أنه لا يوجد فيه ما يمنع تطبيق مقتضياته أو بعضها على قضايا الأسرة أو قضايا الأوقاف ذات الصلة، خاصة على مستوى القواعد العامة.
2 - ثانيا: لأنه لا يتعارض من حيث المبدأ مع قواعد الفقه الإسلامي بصفة عامة، ومع الفقه المالكي بصفة خاصة. لاسيما وأنه مستمد في الأصل من مدونة الموجبات والعقود التونسية لسنة 1906، وهي عبارة -كما هو في علم المهتمين- عن قواعد توفيقية بين التشريعات الأوربية الحديثة آنذاك والشريعة الإسلامية وعلى الخصوص الفقه المالكي السائد في تونس والمغرب، خاصة وأن هناك من يرى أن الفقه الإسلامي هو المصدر المهيمن على ق.ل.ع.م (الأستاذ بلعكيد)، وإن كان الأستاذ شيلح يرى عكس ذلك، فهو يرى في إحدى مقالاته أن متوسط نسبة التأثير بالفقه الإسلامي وحده لا تتجاوز نسبة 17.35 في المئة.
3 - ثالثا: باعتباره يمثل الشريعة العامة أو القانون الأصل الذي يلتجئ إليه القاضي لسد الفراغ العالق ببعض فروع القانون الخاص الأخرى كالقانون التجاري وقانون الشغل ومختلف القوانين العقارية، بل وحتى في مجال تنازع القوانين العمود الفقري للقانون الدولي الخاصء كالفقرة الأولى من المادة الثالثة، التي تصرح بأن الأهلية المدنية للشخص تخضع لقانونه الوطني، فلماذا نعترف بفضله على هذه القوانين ويجحد وينكر دوره في قضايا الوقف والأسرة؟.
4 - رابعا: لأنه يفضي إلى نتائج مرضية، لعل من أهمها:
- تحقيق الأمن القانوني.
فالأمن أو الاستقرار القانوني كما هو في علم الجميع من ملامح دولة الحق والقانون، وهو: "يعني في حقيقة الأمر أن تكون القواعد
القانونية مؤكدة ومحددة في تنظيمها للمراكز القانونية، أو تضمن تأمين النتائج بحيث يستطيع كل فرد أن يتوقع مقدما نتائج أفعاله وتصرفاته من حيث ماله وما عليه"، ويعتمد على ذلك في كل ما يمكنه اتخاذه من الاحتياط والوقاية اللازمين، وهذا يعني أن الأمن القانوني مرتبط ارتباطا وثيقا بإمكانية التنبؤ بالقانون.
أما الرجوع مثلا إلى المذاهب، أو حتى إلى المذهب المالكي بمفرده، خاصة مع عدم تقييد ذلك براجح أو مشهور أو ما جرى به العمل، فلا يجعل عنصر التوقع حاضرا، خاصة أمام الاختلاف المتوقع بين أفهام القضاة فيما يتراءى لهم أنه يحقق قيم العدل والمساواة.
- خلق الانسجام بين القوانين المغربية ومراعاة الواقع.
على اعتبار أن الرجوع إلى أحكام المذهب لا ينبغي أن يتم بمعزل عن أحكام القانون المغربي، لاسيما الأحكام العامة منه وأحكامه الشكلية، وذلك حتى لايتم اقتباس حكم نسير في ضوئه على عكس ما يجري في الواقع.
- تخفيف العبء على القضاء.
فالقول بإطلاقية الإحالة سواء في المادة 169 من مدونة الأوقاف، أو في المادة 400 من مدونة الأسرة، يفضى إلى تكبيد المحكمة عناء البحث في كتب المذهب المالكي وغيره من المذاهب، والحال أن بين يديه نصوصا قانونية قد تحقق له المطلوب، وتوفر عليه الوقت، مع ملاحظة أن فئة ليست قليلة من القضاة لا يتقنون التعامل مع الفقه الإسلامي ونظرياته، بحكم كثرة الملفات أو بحكم
تخصصهم. أو بحكم طبيعة النظام الجامعي الذي درسوا في ظلاله، فكما لا يخفى أن الإصلاح الجامعي الجديد الذي ابتليت به الجامعات المغربية مع كل أسف شديد. لم يعد يخصص للفقه الإسلامي أي حيز ضمن المواد الذي تدرس في مسالك القانون، وهذا من مآسي الاقتباس غير الواعي من الآخر.
خاتمة:
الذي نصل إليه من خلال هذا العرض، هو أنه رغم عدم التنصيص على ق.ل.ع.م ضمن المصادر الاحتياطية لكل من مدونة الأسرة ومدونة الأوقاف. إلا إنه يتعين الرجوع إليه أولا، في حدود ما يسمح به المقام، سواء في إطار القواعد العامة أو في إطار القواعد الخاصة، ولا نرى أن عدم التنصيص عليه يحول دون ذلك، لأن قواعده تشكل الشريعة العامة التي يتم الرجوع إليها عند الحاجة، أماالإحالة على الفقه الإسلامي في المدونتين فمجالها القواعد الخاصة، خاصة وأن وإذا كان لا أحد يجادل في ضرورة مراجعة ق.ل.ع.م من أجل تجديده عن طريق تخليصه من الشوائب والرواسب التي علقت به من طرف المستعمر، فضلا عن حذف ما يتعارض فيه مع القوانين اللاحقة عليه، حتى يصبح ملائما لواقع الناس وحياتهم، خاصة وأن قرنا من الزمان ونيف مر عليه، عرف فيه المغرب عددا مهما من التحولات الاقتصادية والاجتاعية والسياسية والقانونية، يتعين معها تحديثه ومراجعته ليكون في مستوى مواكبتها، فإنه يجب إذا حصلت هذه المراجعة التي ينبغي أن تنم في ظل الثوابت المغربية والحاجات المجتمعية، أن يبين فيها مجال تطبيقه، وتحديد علاقته وضبط صلته بباقي القوانين بشكل أوضح يرفع كل لبس أو غموض. من جهة ويسهم في تحقيق الأمن القانوني من جهة ثانية.
مجلة القانون المدني - العدد الثاني 2015 -
0 التعليقات:
إرسال تعليق